Overblog
Editer l'article Suivre ce blog Administration + Créer mon blog
،،،{"المَعْرِفَة"}،،،

شعر الحماسة في القرنين الثالث والرابع للهجرة

Publié le 20 Novembre 2013

شعر الحماسة في القرنين الثالث والرابع للهجرة.

- تعريـف الحمــاسـة :

لا يتيسر النظر اللغوي في دال الحماسة دون الرجوع مباشرة إلي مصدرين أساسين ينفتحان بنا على دلالات أثيلة، لها انعكاساتها المباشرة على الاصطلاح الشعري، ونعني بذلك لسان العرب لابن منظور، وكتاب العين للخليل بن أحمد الفراهيدي.

يحيلنا الخليل بدءا على باب (الحاء والسين والميم) فإذا به يشقق مواد متقاربة لفظا، ولا تكاد تنأى عن بعضها دلالة وهي: ح س م، ح م س، س ح م ، س م ح ، م س ح أما مادة (ح.م.س) فتحيلنا على الرّجل الشجاع ، و السنة الحمساء أي شديدة بها الشجاعة ([1] ) . وكذا ينفتح بنا ابن منظور على معنى حمس، حيث يقال" حمس الشر : اشتدّ وكذلك حمش واحتمش، واحتمس الديكان واحتمشا، واحتمس القرنان واقتتلا. "([2])

فلا يخلو اللفظ حينئذ من معنى القوّة والشدّة، إذ " حمس الأمر حمسا اشتد، وتحامس القوم تحامسا وحماسا تشادوا واقتتلوا. والأحمس والحمس والمتحمس الشديد، والأحمس أيضا المتشدّد على نفسه في الدين، وعام أحمس وسنة حمساء شديدة " ([3] ) .

يحيلنا هذا المعنى الأول إذن إلى معنى آخر يجاوره وهو أوثق ما يكون بمعنى الشجاعة، فرجل " حمس وحميس وأحمس شجاع " من هنا اتصل اللفظ بمقام الحرب، فكانت الحماسة "المنع و المحاربة " و " تحامس القوم تحامسا وحماسا تشادوا واقتتلوا " .

فحيث ما قلبنا النظر ألفينا إحالة على الشدّة و القوّة صفة للإنسان، إما تشدّدا في الدين أو شجاعة في الحرب أو تحفزا في الوجدان يستحيل عصبية لفكرة أو شيء أو قوم، ودلالة على الصلابة في المكان وتسمية لقريش" لأنهم تحمّّسوا في دينهم أي تشدّدوا".

ولا تخلو الأفعال المجاورة من ذلك المعنى أيضا، فسحم يدل على اللون الأسود، وحسم يحيل على معنى قطع ومنع ومنه الحسام أي السيف " لأنه يحسم العدو عما يريد: أي يمنعه "([4] ) وكذلك فعل سمح، ففيه الجود بالمال "والمسامحة في الطعان والضراب والعدو"، وفي فعل مسح ما يدل على " ضرب العنق، تمسحه بالسيف مسحا "([5] ) .

ومن هنا رسخ المعنى الاصطلاحي موصولا بالحرب وأجوائها، استبسالا في المعركة وبطولة في مقارعة الخطوب، فذكر المرزوقي في فاتحة شرحه لديوان الحماسة لأبي تمام التعريف التالي: " الحماسة: الشجاعة، والفعل منه حسن ورجل أحمس، (...) وشكوى النفس إلى التنائي و الغربة دخلت في باب الحماسة " ([6] ).

على هذا النحو إذن يكون لفظ الحماسة منغرسا في أتون مرجعية قتالية وموصولا بسياق نفسي تتناسل منه معاني الحزم والحسم معا شدة في الدين أو عصبية للقوم.

- قيـم الحـمـاسـة:

إنّ الجمالية تتجاوز هذا المستوى الفني إلى المستوى الدّلالي، إشادة بقيم أصيلة وأعمال نبيلة، جماعها قيمة الفتوّة قيمة من قيم العروبة الأثيلة، التي انبرى لها الشعراء متمثلين إياها في ممدوحهم، فإذا هو نموذج قيمي أصيل يُطلب فيُدرك كما لم تشهده دولة الخلافة منذ أيامها الذهبية.

ومن أبرز هذه القيم المعلومة بالضرورة في هذا السياق الشعري يمكن أن نتوقف عند:

- الـبـطـولـة: وهي قيمة ذات مظاهر شتى، ليس يعلو عليها الانتصار للإسلام في مواجهة الشرك، ذلك أن الممدوح يبرز ههنا منقذا دينيا، ومخلصا إلهيا، أرسلته السماء إلى الخلائق ليرسي توازنا مفقودا. ألم يقل أبو تمام في مدح المعتصم:

أبقيت جدّ بني الإسلام في صعد والمشركين ودار الشرك في صبب.

إن المخاطب حينئذ ذات تتوفر على مشروعية دينية ترفد مشروعيتها السياسية، لذلك فما هو غير أداة توجّهها القدرة الإلهية بما تشاء من أسباب النصر. وعلى هذا النحو صوّر أبو الطيب سيف الدولة إذ قال:

وإنما عرض الله الجنود بكم لكي يكونوا بلا فسل إذا رجعوا

فلا يضير الممدوح إذن أن يكون على الحال الذي يشاء مادام ظلا للإله في الأرض، وتلك بطولة خارقة ترتقي بصاحبها إلى ذات ملحمية لا يعجزها شئ، ولا يقهرها قاهر إنْ من أعداء الخارج أو الداخل، فالأمر يستحيل سواء.

- الشـجـاعــة: وهي صفة محمودة, تتواتر في مختلف الأغراض، إذ لا يستقيم دونها مدح أو فخر أو رثاء، فهي سبيل العبور إلى الفتوة المنشودة في كل الأحوال. وقد توارثها العرب عبر رصيدهم الشعري المشترك، إشادة باقتحام الأهوال ومقارعة الخطوب بكل صبر وثبات. فليس كمثل الممدوح في المبادرة إلى المخاطر إذا هابها الناس جميعا، كذا صور ابن هانئ المعزّ حاميا للثغور بمفرده:

هذا المعز ابن النبي المصطفى سيذبّ عن حرم النبي المصطفى

- الفـروسـية: لا تستقيم البطولة والشجاعة دون دليل ينهض عليهما، فإذا الفروسية هي السببل إلى ذلك, فالممدوح قائد سياسي وإمام الأمة وخليفتها وهو في الوقت نفسه فارسها المغوار وبطلها الأوحد، فهو الذي يسيّج الهزيمة ويحاصر الأعداء بركابه :

وبين يديه خيله بسروجه تقاد عليهن النضار المرصع

وأعلامه منشورة وقبابه وحجابه تدّعي لأمر فتسرع

- القــوّة: إلى ذلك يمكن أن نضيف القوة وجها من وجوه هذا وذاك من القيم، فلولا قوّة النفوذ والسّلطان والحكم لما دانت العوالم إلى هذا الممدوح الظافر إدانة طاعة وتذلل، فانظر إليه كيف يصوّره ابن هانئ:

غضب الخليفة للخلافة غضبة رخصت لها المهجات وهي غوالي.

فإذا غضب الخليفة أضحت الدّيار ديار استجابة لغضبه، استجابة تلبي رغبته فورا وتدفع نقمته حالا، وتلك هي القوّة في أعتى تجلياتها.

هذه القيم جميعها إذن تمثل منتهى ما اتفقت عليه الجماعة من أصيل الصفات وجليل الأفعال، التي عزّ صاحبها في زمن القصف والعزف، وأحوال الضعف والجبن وقد أصيب القوم بالوهن، والوهن في نص الحديث النبوي " حب الدنيا وكراهية الموت "، والأمر متأكّد عصرئذ وقد تبرّجت الدنيا بزينتها لأهل الحكم وأهل الحكمة معا.

إنّ شعر الحماسة عندئذ شاهد على عصره من جهة تفاعله مع وقائعه، ولا يعني ذلك أنه قد استحال انعكاسا له أو وثيقة تخبر، بقدر ما هو صحيفة تعبّر عن المنشود أكثر من تعبيرها عن الموجود الذي زين بزينة الصور التخييلية الطافحة بخارق الأحوال والأفعال، كما هو صفيحة تنقدح بها شرارة الحلم الحضاري المنشود بالقيادة والريادة.

جعلت وُكدها بنية النّص دون ما يحيط به من حراك حضاري متوهّج وأوجه النشاط الفكري والثقافي عامّة.

فإلى أي مدى يجوز لنا أن نقف بخلاف ما عهدناه حينا من الدّهر فتحا معرفيا في مستوى مناهج النقد، لا يجوز لنا بأي حال من الأحوال اختراقه وتجاوزه؟

- جـدلـية الواقـعة والواقـع:

يبدو النقد الحديث في تعامله مع الحماسة غرضا شعريا مخصوصا، مسيّجا بنموذج امتلك مشروعية وقداسة، لا تزال توجّه الدّرس الأدبي أكاديميا كان أو مدرسيا تعليميا، ويمكن أن نقف عند مقالة " محمّد مصطفى" نموذجا دالا في هذا المقام، إذ يختزل جملة الدّراسات المتعلقة بقصيدة "فتح عمورية" منهجا وأسلوبا قائلا : " أمّا في العصر الحديث فنجد مارجليوث يصفها بأنها من " أبرع قصائد أبي تمام" دون أن يشرح لنا السبب في هذا الحكم، أما الدارسون العرب الذين ألغوا دراسات حول هذه القصيدة مثل البهبيتي وعمر فروخ فلم يعنوا بتحليل القصيدة تفصيلا، وصحيح أن شوقي ضيف قد أدلى بملاحظات بديعة إذ كانت موجزة على ما أسماه بتوافر الأضداد في القصيدة، وذلك في كتابه( الفن ومذاهبه في الشعر العربي). ومع ذلك, فلم يحاول أي ناقد، باستثناء حاموري، القيام بتحليل نفسي جاد للقصيدة، بل إن تحليله كما رأينا يقتصر فقط على موضوعات عدّة. لكننا رأينا هنا كيف أنّ النظرة العامة للقصيدة، التي تنطلق من تحليل النص، لكنها لا تغفل عن البناء العام، تثبت أن الأسلوب البلاغي يمكن في الوقت نفسه أن يكون أساسا من أسس بناء القصيدة و دليلا على معناها.

إنّ فنّ البديع في هذه القصيدة التي تعدّ من أروع نماذج الشعر العباسي يجاوز كثيرا كونه مجرّد حلية بلاغيّة أو زينة خارجيّة ".([7])

هذا الشاهد المطوّل كالبرق الخلب يعِدُ بما لا يفي به، فيفتّح أفقا دون أن يسطر مسالكه، فإذا كان البديع معراجا لبلوغ مراق تتجاوز الزخرف الفني والحلية البلاغية ، ففيم يتمثل ؟ و ما السبيل إليه إذن ؟

إن المأزق الذي رسب فيه نقدنا، وهذا الحرج البادي فيه ليجلو أنّ المقاربة البنيوية لوحدها، والقراءة الأسلوبية المتعالية عن واقعها ووقائعها ما عادت كافية في التعامل مع نصوص أنتجها واقع مخصوص، وتقرأ على ضوء واقع له خصوصياته. فهل يجوز لنا أن نهدر سلطان الواقع على النص، ونكتفي منه بإلماعات خاطفة التزاما بعقد خفي أمضيناه خفية مع الدّرس البنيوي، الذي تراجعت منزلته في داره وقد ارتحلت عنه صوب مصالحة الواقع، والاعتراف بسطوته ؟

لقد اقترح "عبد العزيز حمودة " في مراياه "المحدّبة والمقعّرة" أن يؤوب الناقد اليوم، إلى التراث النقدي يستلهم منه دروسا تتجاوز محبس الدرس البنيوي الذي غرق في الرّسوم، وأغرق في إحصائيات لا تكاد تفهم، فإذا بالنصوص أبعد ما تكون عن النفوس.

وهذا النظر على أصالته، يروم جمالية بلاغية تستعيد المشهد التراثي وتشيح بوجهها عن المناهج الغربية الحديثة، على اعتبار أنها مستوردة، ولكن السؤال المنهجي يتجاوز ههنا ثنائيات ضدية، من قبيل أطروحة الأصالة والمعاصرة، والاتباع والإبداع إلى الحاجات الملحّة كما تستنفرها البرهة الحضارية والثقافية الرّاهنة ، وتنتجها اللحظة الإبداعية الآن .

إننا نعني أنّ المقاربة الجماليّة على وجاهتها تظلّ في حاجة إلى سند من استراتيجيات في النقد الثقافي، بما هو ارتحال من صميم البلاغة إلى رحلة في مسالك الإبلاغ و معابر الواقعة والواقع، ومن ثم تتوفر مساحة للتأويل على ضوء الأرضية الثقافية التي تحرّك فيها النص ويتحرّك فيها الناقد. وليس ذلك جنوحا صوب ردّة منهجيّة تستعيد مصالحة النّص بما هو خارج عنه، إذ لم يغادر النص يوما الأرض التي أنشأته من عدم بقدر ما ظل وفيا لها، ينتظر أوبة اعتراف به رحما حاويا وحضنا رحيما.

وليس كشعر الحماسة غرضا موصولا بالواقع، ومحكوما بمنطق الواقعة، باعتباره ناطقا بأطوارها، ونطفة مخلقة من خلاياها, تتوهج من خلاله صورة نامية من الواقع تكاد تتفطر بها القصيدة أو تميد بها أركانها الشعرية حتى لا قرار ولا سبيل غير سبيل الوجود الاجتماعي يوازي الحضور الوجداني قيمة وتقييما للقول الشعري.

ومن هنا " فإن القراءة الثقافية، هي قراءة تواصلية تتطلب وعيا بالمنجز الثقافي،لأنها تعاين النص من منظور ثقافي متحرك( ذلك أن النص يحفل بالفجوات والفراغات والإشكاليات الفكرية, ينبغي على القارئ أن يحلها ويفككها، ويملأ فراغاتها على النحو الذي يِؤدي إلى معرفة جديدة وغير تقليدية )، وليس من منظور جمالي يفترض أنه ثابت، ويخضع لضوابط وممارسات محدّدة. " ([8])

ورغم المؤاخذات التي قد تواجه بها هذه الرؤية، من اتهامات إيديولوجية مقصودة أو غير مطلوبة، فإنها تظل استجابة لمقتضيات النص أكثر منها انغلاقا على رؤية نقدية جاهزة، وتفاعلا مع ضرورات المرحلة، ففي" هذه المرحلة، إن فكرة النص المعلق في فراغ والذي يجب أن تتم قراءته من داخله لم تعد مقبولة أو ممكنة في بداية القرن الحادي و العشرين " ([9]).

وبقطع النظر عن الجدل النظري الذي يحفّ بالخلفيات النقدية، ومدى جدّته أو استعادته لتصوّرات نقدية هاجعة منذ عقود في بطون الكتب المنتسبة إلى هذا المعسكر أو ذاك، فإننا نروم تجربة توازن بين هذا وذاك، في منطقة وسطى بين هؤلاء وأولئك من النقاد دون أن يعبّر هذا التمشي بالضرورة عن ميوعة نقدية، أو إيثار للسلامة دون حسم أو حزم معرفي .

ولعل الناظر في الدراسات المعاصرة التي اشتغلت على شعر الحماسة لا يعدم صدى لهذه الرؤية سواء كانت تستند إلى خلفية ثقافية أو بدونها، فها هو الأستاذ محمد اليعلاوي في دراسته لحماسة المتنبي يثير جدلية الديني والقومي في القصائد الحماسية فيرى" أن الغالب على شعره الحماسي – الذي تجمع في قصائده السيفيات – هو انتصار للإسلام المهدّد بالحملات البيزنطية وافتخار بدين التوحيد إزاء الرّوم المشركين, وتأييد لجهاد سيف الدولة حامل لواء الإسلام ضد أباطرة النصرانية في النصف الأوّل من القرن الرابع الهجري" ([10]).

ولهذه الرؤية ما يبرّرها في شعر الرّجل، ذلك أنه قد احتفى أيما احتفاء ببطولة ممدوحه، فجعلها بطولة دينية تخط في جبين الدهر أخاديد تحفرها بالأدوات ذاتها التي اعتمدت زمن الفتوحات الإسلامية الأولى، ففي الميمية الشهيرة يعلنها صريحة:

ولستَ مليكا هازما لنظيره ولكنك التوحيد للشرك هازم

فلا يخفى إذن توظيف العامل الديني في سياق الحماسة، ما به يحقق الشاعر ظفرا يوازي ظفر الممدوح، إذ كلما أغدق على ممدوحه انتصارات يستحقها أو هو دونها، حقق انتصارات على فقره وحاجته المادية التي تعوزها فتوحات كلامية تحقق معادلة منشودة بين رب السيف و رب القلم.

وتنسحب هذه النتيجة نفسها على شاعر الفاطميين " وهي حقيقة لم يغفل عنها ابن هانئ المغربي في معزّياته: فقد وضع هو أيضا حروب الفاطميين ضد الروم على مرتبة جهادية، وعنده أيضا نجد المقابلة بين الإيمان والكفر، وتفضيل دين محمد(ص) على دين المسيح :

فلتعـلم الأعلاج عـلما ثاقـبا أن الصليب , وقد عززت ذليل

وليعبدوا غير المسيح فليس في دين الترهب بعدها تأميل " ([11])

هذه النزعة الدينية الناتئة في قصيدة المتنبي، جعلت " محمّد اليعلاوي " يجرّد الشاعر من تلك النزعة القومية العروبية التي تصدر من النقاد على خلفية إيديولوجية معاصرة، فلا أثر لها عند الرجل و الحال أنه كان يخالط أجناسا من الأمراء والملوك رغم نعيه المجد العربي الأصيل في الحكم:

وإنما الناس بالملوك وما تفلح عرب ملوكها عجم.

وبإزاء امتداد التهديد الأجنبي للبلاد الإسلامية، الذي طال الخلافة العباسية ببغداد، في الوقت الذي تهدّد فيه الدولة الفاطمية، فإن" بيضة الإسلام كانت مهدّدة تقريبا على كامل حدودها، فلا غرابة أن نجد في الأدب – أي في الشعر المدحي خاصة – تشابها في الأغراض الجهادية الحماسية، يعكس هذا التشابه في الوضع العسكري : فالمتنبي يشيد بجهاد سيف الدولة، وابن هانئ المغربي – متنبي الغرب كما يقولون – يتغنىّ بجهاد المعز الفاطمي وإن كان بغمط جهاد الناصر الأموي، بل يتهمه بالتواطؤ مع أعداء الدين."([12]).

ولعل سؤالا يستحق الإثارة في هذا السياق يتعلق بدواعي اقتران الحماسة بأغراض شعرية أخرى دون أن ترتقي إلى غرض مستقل بذاته، بل إننا نرى أبا تمام يجهد نفسه في اقتناص شتيت من الأبيات ليجمعها في ديوان واحد هو ما عرف بديوان الحماسة، دون أن يتحوّل ذلك إلى مرتبة القصائد المطولة المخصوصة بمعاني البطولة والقوة الحربية دون سواها، بل إن الغالب على الأمر لا يعدو أن يكون استجابة مباشرة لأحوال سياسية طارئة، وما رسخ في المدونة الشعرية شأن غيره من الأغراض المعروفة.

ألم يكن العرب منذ جاهليتهم الجهلاء معنيين بمثل هذا النمط من القول ؟

ألم ترسخ القوة الحربية والبطولة صنوا للعروبة العاربة ؟

إن ارتحال العرب من حياة البداوة إلى بحبوحة العيش في الرياض النظرة، والقصور المترفة، والمجالس المطربة، قد ألهاهم عن حروب قد ضجروا منها، وموت داهم قد قطعوا مع أسبابه منذ زمن غير بعيد.

أفلا يكون ذالك صارفا بليغا عن الانشغال بداعي الهموم والقتل ؟

إن حاجة الشاعر في ما نرى تتجاوز القضايا العامة والشؤون التي أضحت شأنا موكولا إلى دولة الخلافة، لا إلى نعرة فردية يطلقها الشاعر من أجل النفير العام،

صوب حاجات فردية ملحة، شأن المال والمتعة.

ومهما قلبنا النظر فإننا لن نفوز بغير شاعر يزكيّ وجودا سياسيا مكينا، يروم من خلاله أن يظفر بفتوحات مالية هائلة، وأن يحظى بمكانة اجتماعية مرموقة، لا تخلو من روح التزلف والمبالغة، لا على المستوى الشعري البلاغي فحسب، بل على المستوى السياسي الذي اعتبره " علي الوردي " في كتابه " أسطورة الأدب الرفيع", سبيلا لتأسيس مشروعية السلطان الأوحد، والزعيم الملهم، حامي الأوطان والديار، والمنافح عن شؤون الدين والدنيا . ([13])

فليس العامل الذاتي الذي يراه النقاد صدى لنفس أصيلة التمرد، أو امتدادا لروح العروبة الراسخة في هذا الشاعر أو ذاك، إلا من الوهم الذي سرعان ما تمحوه الحاجات العاتية التي تبدو في تملق هذا أو ذاك دون قدرة على مقاومة هجمات النفس الشهوانية، أو إشهار لسلاح الأنفة والإباء في وجه من فككوا أوصال الخلافة إلى دويلات عاجزة عن التماسك طويلا إزاء من كانوا بالأمس القريب تحت سلطان الدولة أو يهابون سلطانها .

على أن ذلك لا يعني بحال من الأحوال نفي الفحولة الشعرية عن هذا الضرب من القول الذي ساهم المتنبي في تأسيس أركانه. يقول زكي المحاسني , في كتابه " شعر الحرب عند العرب " كاشفا ريادة الشاعر في هذا المجال " ولما جاء المتنبي أصبح هذا الضرب الصريح من الشعر الحربي كامل التحديد و واضح الظهور في مبادئه وخواتيمه وبرزت حدوده للعيان من غيرها " ([14])

إن النظرة الجمالية عند العرب قد انصرفت إلى مدح الصور الشعرية أو القدح فيها، من جهة قوتها أو ضعفها عبارة أو صورة، لأنها كانت معنية بالرسالة الشعرية أساسا، وضوحا في القول، واحتواء لما به تعطف القلوب على قيم عربية أصيلة.

إنّ هذا النمط من الشعر بقدر ما يبعث فينا نخوة الانتماء والاعتزاز بهذه النماذج الطافحة بالقوة والبطولة، يجعلنا إزاء قوة موهومة وانتصارات مشوبة بانكسارات حضارية، ولسنا ههنا بصدد إثارة قضية الصدق والكذب في الشعر العربي بقدر ما نومئ إلى ما يصنعه الشاعر من وهم سرعان ما يتهاوى إزاء الحقائق التاريخية البليغة، إذ كان التفكك السياسي في أركان دولة الخلافة، وانتشار التفاوت الطبقي، وتأجج الثورات الداخلية، وتردي أحوال العامة، ممّا يجعل الاحتفاء بالنصر على ذلك النحو المبالغ فيه، من قبيل التعمية على هزائم اجتماعية بالغة الخطورة .

ولعلنا على هذا النحو نجاري "علي الوردي" فنعتبر هذا النمط الشعري، رافدا من روافد تأسيس العقل العربي الذي يحوّل الهزائم الكبرى انتصارات مغلفة بإرادة القائد الفذ الذي لا يشق له غبار، ولا تنكس له راية .

ألم تتواتر هذه المشاهد في كل المعارك الحاسمة التي خاضها العرب، فإذا هي في كل الأحوال إما "نكسة" أو "أمّ المعارك" ؟

إنها أسماء ينفخ فيها مخيال الهزيمة الذي أضحى يرى الخسر نصرا، ويتخيل بقاء السلطان على عرشه دون الشعوب المسحوقة التي تفتك بها آلة الحرب ظفرا هائلا يستحق قصائد عصماء تخلد اللحظة السياسية الاستثناء .

يقول محي الدين صبحي مصوّرا حماسة المتنبي في إشادته بسيف الدولة في ميميته التي وصف فيها بناء قلعة الحدث:"تقوم قصيدة المتنبي على نوع من الرؤيا يصوّر فيها سيف الدولة بصورة بطل خارق للطبيعة. حلّت فيه كلمة الله ورسالته فصار حضوره تجليا لنصر رسالة الله وهزيمة أعدائه. "([15])

على هذا النحو إذن يستوي الممدوح كيانا خارقا، يخرق سنن الطبيعة ليحل في الوجود ذاتا مفارقة لعوالم السائد الاجتماعي من عجز ووهن يطال غيره من الأمراء، فإذا هو" نصر من الله مبين"، بل" كلمة الله ورسالته".

إنها الصورة الخارقة كما أنشأها الشاعر وأنشدها بين يدي أميره، وهي الصورة عينها كما يستعيدها الناقد المعاصر دون تعليق يذكر، بل إنه ينفخ فيها ليجعل من الممدوح " سيف الدولة هو أوديب الذي يقتل الدراغون ويحرّر القلعة، ويظل خالدا لأنه يجسد كلمة الله ".

ورغم هذه المبالغة النقدية التي تنتصب على هامش مدحيّة المتنبي، مدحية نثرية مجانية،, فإنّ صاحبها يرشح نفسه بطلا يوازي الممدوح ظفرا أو يكاد، فهو القائل في فاتحة دراسته" ولكي يرى القارئ قيمة هذا الكشف الأسطوري، وإضافته إلى فهمنا للقصيدة بحيث يغير نظرتنا إلى فن المتنبي، وضعنا شرح الواحدي للقصيدة و ثم قدمنا تأويلنا الأسطوري لها ." ([16])

إننا بإزاء مخيال عربي جُبِل على أسطرة الانتصارات وتحويلها إلى ملاحم بطولية يتحالف فيها الإلهي والإنساني، تحالفا ينتج ذات مقدّسة لا يرتقي إليها النقد ولا يجوز الاعتراض على إرادتها الإلهية المتعالية .

إنّ السؤال الثقافي الراهن الذي يمكن أن ينبجس من صميم الوقوف عند الشعر الحماسي اليوم، قد يتجاوز ما ينتجه من صورة المستبد الخارق، إلى صورة ذلك الإنسان الممدوح الذي يمارس العنف والقوّة أيضا، فيردي الضحايا بين يديه ثم يستحيل موضوع تمجيد وإشادة من قبل الشاعر الذي يمثل لسان الأمة، فإذا بنا إزاء مخيال يراه الآخر الغربي اليوم منتجا للعنف، ومصدرا للقوة التي أضحت معادلا شرعيا للإرهاب بما هو مشروع سياسي أو ممارسة لا شرعية تستهدف تقويض أركان السلم والأمن الدوليين وفق الخطاب الدولي السائد الآن/هنا.

إننا نرى حينئذ مدى انفتاح الحماسة على القراءة الثقافية، انفتاحا يضفي عليها دلالات جديدة غير تلك المتوارثة في الدرس النقدي العربي، ولعلنا لا نبالغ حينما نرشح هذه الحماسة لقراءة انتروبولوجيّة معاصرة قد تغسلها من التهمة السابقة التي يمكن أن تنبثق نتيجة الاحتكاك بالواقع اليومي المعيش، وتأويل الصور الشعرية ودلالاتها الحافة على نحو يقفز فوق ما يسمح به أفق قراءتها .

ولسنا بذلك نهدف إلى استعادة تجارب نقدية سابقة استهدفت الشعر الجاهلي، فجعلت منه نصا هجينا، فهو أقرب ما يكون لنص أسطوري مفرغ من الانتماء إلى بيئة عربية مخصوصة.([17])

ولعل الملاحظة الأولى التي ينبغي أن نقف عندها بدءا، هي حقيقة المدحية في علاقتها بسياقها الثقافي، ذلك " أنّ شعر المديح في القصيدة العربية القديمة، انوجد نتيجة جملة من الاحتياجات ( حاجة الممدوح إلى الخلود التاريخي، وحاجة الشاعر المادية، داخل نظام ثقافي واجتماعي قبلي ). وبالتالي، يمكن القول إنّ شعر المديح هو نتيجة لنظام ثقافي له خصوصيته"([18]).

ومن مكونات النظام الثقافي، طقوسه الانتروبولوجية التي تُمارس وفق رموز وعادات معلومة وتراتيب اجتماعية مرسومة، ومن أبرز هذه الطقوس تلك التي درسها " فان جينب" وهي طقوس العبور.

والمقصود من هذا التمشي، الإلماع إلى المؤثرات الموضوعية التي وجّهت شعر الحماسة إضافة إلى المؤثرات الذاتية التي ذكرناها سابقا، فنحن نرى في هذا الشعر طقسا من طقوس العبور من ثقافة الخسر إلى أدب النصر الذي عزّ تحصيله حين جفت ينابيع المكانة والوحدة والتماسك. وهو ارتحال من أحوال الانكسار إلى أفعال الانتصار، ما به يعطف الشاعر على قيم الحركة والفعل بديلا عن واقع السكينة والقول.

وهذه الطقوس الاحتفالية لا نخالها إلا من رواسب ثقافة الكلام الساحر، أو لعلها صدى لخطاب شفوي عريق في ثقافة العرب، يزعم قدرة خارقة على تحريك السواكن وتسكين الهزائم المتحرّكة صوب الممدوح.

لقد رسب شعر الحماسة في المخيال حينئذ سبيلا لتخليد لحظة انتصارية آفلة، أو صانعا لبرهة حضارية سامقة، عنوان فحولة وبطولة تلمَعُ على جبين الدهر نصرا مبينا منشودا. فهو امتداد لصراع قديم بين الكلمة والوجود، حيث كان الاحتفاء بالكلمة ينتج حياة جديدة يتهدّدها الموت قريبا، تماما كما كان الموت يتهدّد شهرزاد، فإذا بها تختلق أصنافا من الحكايا الممتعة من عالم الخرافة ما به تؤجل فعل الموت الزاحف نحوها.

وكذا شاعر الحماسة، لا نراه إلا خالقا للصور من رحم الخيال، يرى بها ممدوحه كما يشاء، يحيا بكلمات المدح ، فيحيا بحياته أمل هاجع في النفوس باستعادة أمجاد أثيلة يتربّص بها الرّوم من كل جهة، وهو إلى ذلك يحيي في المتلقي روح البذل والعطاء ، تضحية توازي فعل الممدوح بطولة وعطاء بلا حدود .

- أفق الشعر ونفق النقد:

إنّ الحاصل مما استصفيناه من شعر الحماسة، أنه ليس مجرّد قول جمالي، ولا إشادة بفعل بطولي فحسب، بقدر ما هو تأسيس ثقافي للملحمة شكلا من أشكال التعبير، يواجه به المجتمع ما تآكلته من طوائف ودويلات مهدّدة كلّ حين بغزو أجنبي كاسح.

الحماسة إذن صوت متمرّد على الأنساق الثقافية المهترئة، التي اختارت مهادنة السائد انغماسا في المعازف والمقاصف، وزهدت في حماية الثغور والمرابطة بها.

وانظر إلى قصة تلك المرأة العربية التي اقترنت حكايتها بفتح عمورية، حين نادت في الآفاق نداء مدويا" وا معتصمــــاه"، وقد عمد جندي من الرّوم إلى الإساءة إليها، وقيل تعمد الكشف عنها, كيف استجاب المعتصم على الفور، تلبية لنداء النخوة العربية وتحقيقا لمقتضيات الواجب الديني.

إنه مهما يكن من أمر صحة هذه القصة أو اختلاقها، لتمثل رمزا بليغا لصرخة نظام ثقافي، جعل المعتصم رمزا يختزن قيم العروبة والإسلام التي يستصرخها الناس يومئذ وهم يلوذون إلى قائد يرومون من خلاله رؤية حلمهم قاب قوسين أو أدنى من التحقق.

إنها أزمة حضارة بدأت تنخرها دودة الفتن، فأخذت تصدّر أزمتها نحو الخارج عسى أن تفوز بتوازن مفقود، وكان الشاعر الحماسي خلال ذلك منوطا به أن ينطق بحاجاته وحاجات أمته في آن، فيصوّر المعركة وانتصاراتها، أو يرثي نموذجا قيميا انزلق إلى قبره دون رجعة، أو يلهج بذكر ذات خارقة تمثلت قيم الجماعة كأفضل ما يكون، سواء كانت هذه الذات هي ذات المادح أو الممدوح .

وحين نسترجع المشهد الحماسي في شعرنا العربي منذ الجاهلية الجهلاء إلى لحظتنا الحضارية الراهنة، تمتد مساحة من الفراغات الثقافية ببن شعر الصعاليك بالأمس، وشعر المقاومة اليوم، تثوي فيها دلالات تنطق بحركة اجتماعية هادرة تمور بمتغيرات سياسية وعسكرية هائلة، إذ كلما خاضت البلاد من المعارك ما يقوّض وجودها، أفاضت قريحة الشاعر في توجيه العباد لما يروّض وجدانهم.

من هنا يمكن أن نستخرج من شعر الحماسة حماسات هي في ما نقترح:

- حماسة المكان: وهي احتفاء بالواقعة والموقع معا، هي واقعة عمورية أو بناء قلعة الحدث بعد تخليصها من أيدي الرّوم. وفي ذلك يتشكل الشعر ضربا من التصوير الفني الذي يحتفي الحديث فيه بأحداث مخصوصة في المكان تدور في رقعة الإمارة الإسلامية المنتصبة في حياء، دون غيرها من الإمارات التي تهاوت سريعا.

والمكان ههنا ليس رقعة جغرافية فحسب، بقدر ما هو آخر الثغور المتبقية، بما يمنحة مكانة قدسية إضافية ينبري الشاعر متفاعلا وإياه تفاعلا وجدانيا متميزا يصادف رغبات في النفس مكينة لا يجوز لنا أن نغضي عنها مادمت مؤثرة في القول الشعري وفاعلة فيه.

- حمـاسـة الزمـان: لقد كان الزّمن موصولا بآخر الفتوحات، بل يجوز القول إنه من دولة الخلافة ثمالتها، ما يبرّر إلى حدّ ما ذاك الاحتفاء الهائل بالانتصار وأجوائه، والمعركة وأدواتها، والقائد وصورته.

والزمن أيضا هو زمن العروبة المتراجعة بإزاء وجود الموالي من الأتراك والفرس وجودا كاسحا اخترق مختلف أجهزة الدولة، فأضحى الفتى العربي غريب الوجه واليد واللسان على حد تعبير المتنبي.

فالشاعر إذن يستنفر ذاكرته, مستحضرا ما كانت عليه أمور الخلافة وما آلت إليه فيستدرج ممدوحه إلى استعادة ذلك المجد، عسى أن يؤول الزمان غير الذي هو عليه، وذلك هو حلم الشعراء، متى اعتبرناهم لسان قومهم.

- حمـاســة الإنسـان: وفيها يتجلى الممدوح إنسانا راقيا، يفوق الأنام سلطانا وسطوة، فإذا به الزعيم الملهم للانتصارات الأسطورية الخارقة، فينطق حينئذ بإرادة الله، ويتكلم بكلمة التوحيد والإسلام، بما يهبه صلاحيات إضافية إلى صلاحياته.

وصورة البطل هذه, تبدو صدى لصورة ملحمية تستعيد ما استقر لدى الأمم الأخرى من احتفاء هائل بأبطالها، لذلك ينفخ فيها الشاعر بحميم مشاعره، ويغذيها من صميم خياله عسى أن يرود ذرى من الإبداع منشودة في مثل هذا المقام الرّسمي.

- حمـاســة الوجــدان: هي التعبير عن المشاعر المتوهّجة إزاء الممدوح بفيض من التعابير التي يستنفر لها الشاعر جماع جهده وطاقته الشعرية فهي ذروة البيان، إذ يستدرج اللغة نحو مملكته بما أوتي من آلة البلاغة، فإذا به يقول ما لا يفهم, على حدّ وصف أحدهم لكلام أبي تمام،, والحال أنه كان يجهد نفسه في تشقيق العبارات واختراعها جهدا يوازي فعل الجهاد الذي كان يأتيه الممدوح دفاعا عن الديار .

وهو بذلك يطلب من القارئ أن يبادله جهدا بجهد، فردّ على سائله حينئذ: " وأنت لم لا تفهم ما يقال ؟ ".

تلك هي لعبة الكلمات التي تعكس وجدانا أضحى يستخفّ بالسهولة في التعامل مع الأشياء، في الوقت الذي كان الممدوح فيه يستفرغ أقصى طاقته في سبيل البلاد والعباد. على أنّ هذا التأويل لا ينفي بالضرورة الحاجات الشعرية الملحّة للتجديد في ذلك العصر، وقد دشنه شعراء من قبل في غير هذه المعاني الشعرية الطارئة بحسب التقلبات السياسية.

إننا ننتهي إذن إلى ضربين كبيرين من الحماسة، هما حماسة الشاعر في اتجاه تصوير الانتصارات والاحتفاء بها أو المساهمة في صنعها بإعلان النفير وتحريض الناس على الخروج، وحماسة الشعر الذي يتشكل على نحو بديع، وفق أفق في القول يفضي بالشاعر إلى انتصارات فنية، فإذا هو رائد للشعر يعطف القلوب على قيم الجهاد وبذل الجهد في سبيل استخلاص المعاني استخلاصا غير هيّن.

وإن شئنا أن نتوجّ جهد البحث هذا, بتعريف شامل لشعر الحماسة كما استصفينا صوره ههنا، فإنه من الجائز أن نعرّفه باعتباره قولا شعريا ينوب فيه اللسان عن السِنان، وتحلّ فيه الأقوال محلّ الأفعال، تخليدا لبطولات حربيّة ذات أبعاد ملحميّة تتوّج أعمال الممدوح نصرا تاريخيا حاسما .

والحماسة حينئذ جهد كلامي يوازي جهادا فعليا أنجزه البطل، وهو الممدوح في مقامنا هذا، ولنا بذلك أن نعتبر دون مبالغة أن هذا القول الشعري يكاد يضاهي ملاحم القدامى إبداعا فنيا وتصويرا بديعا للصراع وأجوائه وأطرافه.

ومهما قلبنا النظر في الشعراء الثلاثة: أبو تمام والمتنبي وابن هانئ، فإننا لن نعتبر اختلاف الزمان بينهم ولا اختلاف المكان, فقد كان ثلاثتهم يصدرون عن مخيال عربي راسخ في تمجيد الأفراد وتوليد البطل الورقي، الذي سرعان ما يستحيل كيانا بشريا خارقا للأقدار، وخالقا للأعذار، متى حلت الهزيمة، ورحل القائد، وانقلبت الأمور من نصر إلى خسر. ومع ذلك يظل حظ الاتباع والابتداع حلقات تعطف الشعراء بعضهم على بعض فلا ننكر حينئذ احتذاء المتأخر أثر من تقدّمه، وفق سيرورة شعرية تراكمية يقتضيها منطق الحراك التاريخي والأدبي.

إنّ القراءة الثقافية مهما اعتبرناها ههنا خارجة عن سياق النص، واعتسافا لمسالك في القراءة محفوفة بنزعة ذاتية أو إيديولوجية، تظلّ إلى حين أفقا يسدّ مسد ّتلك المقاربة الجمالية السّاكنة، إذ تهدر دلالات ممكنة تضفي معنى حضاريا على ما نحن بسبيله الآن.

وإذا كان إنشاء شعر الحماسة وإنشاده قد انبثق عن تفاعل حميم ومباشر مع لحظته الحضارية المتوترة، فلا يضيرنا في شئ أن نقرأه أيضا على ضوء سياقنا الحضاري الأكثر ترهّلا.

إنّ حوار الماضي والحاضر من خلال هذا القول الحماسي، يزوّدنا بطاقة جمالية وروحيّة هائلة لاستنفار كوامن العجز فينا صوب استخلاص قدرات إعجازية ممكنة، متى رُمنا أن نرتحل من كلام إلى فعال و من جهد الفهم إلى مجاهدة النفس في تفهّم مقتضيات القول وخطورته إن ظل معلقا في السماء دون وقوف عند خلفياته ومخلّفاته.

) الخليل بن أحمد الفراهيدي : كتاب العين – ج1- ص: 201- موقع الورّاق 1)

www.alwaraq.com.

ابن منظور : لسان العرب .ص57.-ج6 – دار صادر –بيروت ط1 – د.ت. (2)

) م.ن.ص:57[3] (

) الفراهيدي: المرجع السابق- ج1- ص- 201.[4] (

) م.ن- ص ن.[5] (

(1) المرزوقي: شرح ديوان الحماسة . نشر أحمد أمين- عبد السلام هارون- مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر 1371ه- 1951م . ج1، ص 21.

1) محمد مصطفى بدوي : وظيفة البلاغة في الشعر العربي الوسيط . قصيدة أبي تمام عن عمورية – مجلة فصول مج.14-ع. 2- صيف 1995- ص 221.

1) عبد الفتاح أحمد يوسف : استراتيجيات القراءة في النقد الثقافي , نحو وعي نقدي بقراءة ثقافية للنص –مجلة عالم الفكر- مج.36- ع.1- يوليو – سبتمبر 2007- ص164.

2) عبد العزيز حمودة : الخروج من التيه – سلسلة عالم المعرفة – عدد298- نوفمبر- 2003- ص337

1) محمد اليعلاوي : حماسة المتنبي بين الحمية الدينية و الحمية القومية – مجلة الفكر – تونس – س. 23- ع.4 جانفي 1978- ص 13

2) م.ن- ص:17.

3) م.ن- ص:14.

1) يقول مبروك المناعي في أطروحته :"القاعدة في عموم الشعر العربي – لاسيما خلال القرون الثلاثة الأولى- أن الغالب عليه المديح وأن الغالب على مديحه التكسّب . إنه موقف رغبة وطلب يخفي ويظهر ولكنه موجود مهما اجتهد الشاعر في كتمانه، بل إن له وجودا سياقيا يتجاوز وجوده النصّي ويتعالى عليه."

الشعر والمال – دار الغرب الإسلامي، بيروت – كليّة الآداب منوّبة- تونس -1998 . ط1- ص 409.

1) زكي المحاسني : شعر الحرب عند العرب – ص307.

2) محي الدين صبحي : دراسات رؤوية – دمشق –وزارة الثقافة -1987- ص47.

(1) م.ن- ص: 33.

2) انظر مثلا : وهب أحمد رومية: شعرنا القديم والنقد الجديد – سلسلة عالم المعرفة-ع.207 – مارس 1996.

1) عبد الفتاح أحمد يوسف : استراتيجيات القراءة في النقد الثقافي – ص186.

Commenter cet article